الحج .. ما بين العبادة والتجارة
الحج .. ما بين العبادة والتجارة
عند سماع عبارة “تجارة الحج” سرعان ما يتبادر الى الاذهان التجارة بمعناها الحقيقي ، اي عملية التصدير والاستيراد للبضائع وتبادلها بصورة عامة ، ومن ضمنها التهريب او (القچغ) بالعراقي ، لكني اليوم ابحث في تجارة من نوع آخر ، غير خاضعة لاي جمارك او ضرائب كونها تجارة دينية روحانية عاطفية غير معلنة .
تشرفنا بحج بيت الله منذ اعوام خلت ، لنحط رحالنا في مدينة الرسول المنورة ، وكان معنا في الحملة البريطانية حوالي العشرة او اكثر بقليل من المعممين ، شي ابيض وشي اسود (منهم من يشترك اليوم في حكم عراق الدم ) ، وفي اول يوم كنا نهم للخروج من الفندق لزيارة قبر الحبيب (ص) ، عرجنا على غرفة يسكن فيها اثنان منهم لطلب مرافقتهم في اول دخول لنا على حضرة النبي (ص) ، فرفضوا الخروج وآثروا البقاء ، وعندما سألتهم عن السبب اجابوا بسخرية الجو حار !
ظننتهم للوهلة الاولى انهم يمزحون ولكنهم كانوا جادين في كلامهم ، وقالوا نحن ولله الحمد حجينا واعتمرنا عشرات المرات ولكن جئنا لنعلمكم الاحكام والواجبات .
خرجنا للزيارة مع مجموعة من الاخوة الحجاج الاعزاء ، وانا تدور في رأسي اسئلة كثيرة ، هل فعلاً تحتاج كل حملة حج صغيرة الى كل هذا العدد من المعممين ؟
كونهم يأخذون مكان غيرهم ممن لم يؤدي الفريضة بعد ، وبما انهم معفيون من اجور الحج الباهضة ، بالتالي فإن مصاريفهم ستقسم علينا !
حتى اكتشفت امراً في غاية الاهمية ..
لعله في اليوم الثاني او الثالث التقينا صدفة اثنين منهم في مصعد الفندق كانوا يهمون الخروج لا اعلم الى اين ( كونهم من المفروض ان يكونوا معنا في كل مكان ) وهم يلبسون اللباس الرسمي ومتعطرين بالعطور “الحلال” ، واذا باحدهم يقول للاخر باللغة الفارسية كي لا يفهمهم احد “كم تراهم دافعين لنا”؟ فضحك الاخر ولم يجبه كونه يعلم باني افهم الفارسية ، وبادرت بالقول لذلك المعمم السائل (حرف نَزَن حاج اغا) اي لاتتكلم سيدي الحاج ، لنضحك جميعاً .
بما انني ولدت فضولياً لذلك بحثت في الموضوع جيداً لتتضح لدي بعض الحقائق المذهلة ، فاكتشفت بانهم كانوا ذاهبين الى بعثة علي الخامنائي الايرانية .
لأفهم كذلك تباعاً ان سفرهم كل عام الى الحج والمرات العديدة الى العمرة هو ليس من اجل اداء الفريضة ، او من اجل توضيح الحلال والحرام للبسطاء من امثالنا كما يدعون ، بل من اجل التجارة ! وهذا هو بيت القصيد ومن هنا تبدأ الحكاية ..
كما هو معروف ان كل مرجع من مراجع التقليد يفتَتِح له مكتباً في الحج اسوة بباقي المراجع الاخرين ويسمى “بالبعثة”.
ذهبت مع احد الاصدقاء من المشايخ الكبار الذي احترمه لتقواه وزهده الى شارع في المدينة المنورة يسمى بشارع البعثات نسبة لبعثات المراجع الموجودة فيه .
لارى شئ مذهلاً وكأني في معرض بغداد الدولي ، حيث اليافطات المخطوطة الكبيرة مُعَلقة على مداخل المباني التي تضم مكاتبهم ، فهذه تقول هنا بعثة المرجع فلان ، والاخرى تدل على مرجع آخر وهكذا ، وترى المعممون يدخلون فيها افواجاً ويخرجون وهم يسبحون بحمد الله وكانه يوم المحشر ، حيث ترى اغلبهم متوتر المزاج مكفهر الوجه لا يعلم كم هو المبلغ داخل الظرف الذي حصل عليه ، ويسمى ذلك الظرف بالعرف الحوزوي (الباكيت) بتشديد الياء .
والسبب من وراء كل تلك البهرجة “الايمانية” هو ان اولائك المعممون الذين اغلبهم من الخطباء وائمة الجمعة في قصباتهم واحيائهم ومدنهم حول العالم ، الذين لو استلموا باكيتاً سميناً سيردوا ذلك الجميل بالتبليغ لذلك المرجع السخي عند العوام المساكين ، من اجل ان يقلدوه وبالتالي يدفعوا له خُمس ارزاقهم ، بالاضافة الى ضريبة رد المظالم وكذلك الهدايا الخاصة .
وحجم ذلك الباكيت هو بحجم ذلك المعمم ، اي لو كان لديه حضور جماهيري واسع بسبب تمكنه من فن الكلام والاقناع اي صاحب كاريزما ، فباكيته يكون من السمن بحيث لا يسعه جيب واحد ، وإن كان اعزباً وغير محتاج .
اما اذا كان العكس ، اي لا كاريزما ولا يحزنون وبعرفهم يسمى (خريش) ، فباكيته لا يساوي ثمن الظرف الذي وضع فيه وإن كان معيل لاسرة كبيرة ومحتاج .
وكيف يعرف ذلك المسؤول عن تلك البعثة (( والذي يكون في الغالب ليس المرجع نفسه الذي لا يظهر “للعوام” او يجالسهم او يتجاذب معهم اطراف الحديث فتذهب هالته وقدسيته ، بل غالباً ما يكون احداً من اولاده او اصهاره، وانا رأيت بام عيني غرف خاصة في تلك البعثات لاستقبال ضيوف ال VIP )) حجم كل واحد من اولائك المعممين الداخلين عليه بافواج كبيرة يومياً ؟
ذلك يتم عن طريق جهاز امني غير معلن ، والذي هو عبارة عن شبكة معقدة جداً من المعممين المقربين من ذلك الابن او الصهر ، واجبهم هو الاستفسار والاستقصاء عن الخطباء في كافة انحاء العالم ، وكذلك من واجباتهم معرفة الاغنياء من كبار التجار من اجل تميزهم عن “الغث” من باقي ضيوف الرحمن ! والتي هي مهمة شاقة جداً لكنها بنفس الوقت مربحة جداً ، لذلك فلها رجالها .
اذن ، فهو استثمار تجاري حقيقي كون حجم الاموال المتداولة فيه ليست بالملايين بل بالمليارات ، لانها تشكل خمس مدخرات الشيعة وايراداتهم الضخمة في كافة انحاء المعمورة والذي جاوز عددهم ثلاث مائة مليون .
ولكن .. البضاعة التي تُسَوّق في هذه التجارة البائرة ، هو دين محمد (ص) ونهجه ونهج آله الطيبين الطاهرين (ع) وصحبه المنتجبين (رض) ، ذلك النهج العظيم الذي اصبح سلعة تباع وتشترى بصكوك الغفران الكهنوتية ، فهل نرضى بذلك ؟!